أصبح اللجوء للوسائل البديلة لحل النزاعات في وقتنا الحالي أمراً ملحـاً،
وذلك لتلبية متطلبات الأعمال الحديثة، والتي لم تعد المحاكم قادرة على
التصدي لها بشكل منفرد. فمع التطور المستمر في التجارة والخدمات، وما نتج
عن ذلك من تعقيد في المعاملات، وحاجة إلى السرعة والفعالية في بث الخلافات،
وتخصصية من قبل من ينظر بهذه الخلافات أو يسهم في حـلها، نشأت الحاجة
لوجود آليات قانونية يمكن للأطراف من خلالها حل خلافاتهم بشكل سريع وعادل
وفـعّال، مع منحهم مرونة وحرية لا تتوفر عادة في المحاكم.
فلا غرو إذن أن تعرف الوسائل
البديلة لحل النزاعات اهتماما متزايدا على صعيد مختلف الأنظمة القانونية و
القضائية، وذلك لما توفره هذه الأخيرة من مرونة و سرعة في البت و الحفاظ
على السرية وما تضمنه من مشاركة الأطراف في إيجاد الحلول لمنازعاتهم.
ونظرا لما تحتله الوسائل البديلة لحل النزاعات من مكانة بارزة في الفكر القانوني والاقتصادي على المستوى العالمي،وما شهده العالم
مند نصف قرن ويزيد من حركة فقهية و تشريعية لتنظيم الوسائل البديلة ، وما
تمثله في الحاضر من فعل مؤثر على صعيد التقاضي كان من الطبيعي أن تعمل
الدول جاهدة لإيجاد إطار ملائم يضمن لهذه الوسائل تقنينها ثم تطبيقها لتكون
بذالك أداة فاعلة لتحقيق وتثبيت العدالة وصيانة الحقوق.
وانطلاقا من هذا المبدأ وجدت من المناسب وحتى تعم الفائدة ويتخذ هذا البحث
صفة الشمولية المطلوبة أن تكون خطة البحت على المنوال التالي :
أولا : تعريفالوسائل البديلة لحل المنازعات و التطور التاريخي لها
ثانيا : تحديد مختلف أنواع الوسائل البديلة
ثالثا : مدى فعالية هذه الوسائل وعلاقتها بالقضاء
أولا: تعريفالوسائل البديلة لحل المنازعات و التطور التاريخي لها:
الوسائل البديلـة لفـض المنازعـات (ADR Alternative Dispute Resolution ) ، أو الطرق المناسبة لفض المنازعات كما تسمى في الوقت الحاضر Appropriate Dispute Resolution ، ويعبر عنها أحيانا "فض المنازعات" Dispute Resolution (DR) ، و هي تلك الآليات التي يلجأ لها الأطراف عوضاً عن القضاء العادي عند نشوء خلاف بينهم، بغية التوصل لحل لذلك الخلاف(1).
و انطلاقا من هذا المعنى يخرج التقاضي عن إطار هذا التعريف، فهــولا
يعد وسيلة بديلة لحل الخلافات بل وسيلة أصيلة، إذ أن الأصل في الأطراف
اللجوء إلى المحاكم ومحاولة حل الخلافات التي بينها عبر التقاضي في حال
نشوء خلاف بينها.
وعلى
الرغم من ذلك، فقد أدى ازدياد لجوء المتنازعين إلى هذه الوسائل في الفترة
الأخيرة إلى عدم جواز تسمية تلك الوسائل بـ "البديلة"، ذلك أن كثرة اللجوء
إليها أدت إلى تحولها في كثير من الأحيان إلى وسائل أصيلة يلجأ لها الأطراف
ابتدءا ، مستفيدين من مزاياها في سرعة حسم النزاع ،والحفاظ على السرية
،وخفض التكاليف في أوضاع كثيرة، إضافة إلى مرونتها من حيث إجراءات حل
النزاع والقواعد المطبقة عليه.
وجدير
بالذكر أن الوسائل البديلة لحل المنازعات، قد أصبحت من الوسائل الملائمة
للفصل في مجموعة هامة من المنازعات، كما هو الشأن في منازعات التجارة
الدولية وحماية المستهلك، والمنازعات الناشئة في بيئة الإنترنت، والتجارة
الإلكترونية، والملكية الفكرية في العصر الرقمي وغيرها من المنازعات(2)
، حتى أصبح يطلق على هذه الوسائل بالنظر لطابعها العملي " الطرق المناسبة
لفض المنازعات". بل لقد أصبح اللجوء إلى التحكيم مشروطا في غالب الأحيان
بضرورة اللجوء مسبقا إلى الوساطة أو التوفيق(3).
التطور التاريخي للوسائل البديلة (4):
كان
القضاء مند القدم ولا يزال الوسيلة الأساسية لحل النزاعات، لكن مع تطور
ظروف التجارة والاستثمار الداخلي والدولي أخذت تنشأ إلى جانب القضاء وسائل
أخرى لحسم المنازعات ، وبذلك ظهر التحكيم فتطور مع تطور
التجارة الدولية والتوظيفات الدولية ، تطور بإجراءات المحاكمة التي اقتربت
كثيراً من إجراءات المحاكمات القضائية، ثم بشكلياته التي قربته أكثر من
المحاكم القضائية ، ثم جاءت المعاهدات الدولية لتحصنه وتحصن أحكامه ، بحيث
لم يعد من المبالغة القول بأن التحكيم لم يعد وسيلة بديلة لحسم المنازعات
المدنية والتجارية بل أصبح أو يكاد يصبح الوسيلة الأساسية لحسم منازعات
التجارة الدولية.
وإلى
جانب التحكيم ظهرت الوساطة والتوفيق وهذا الشكل من العدالة قديم جدا وهو
أقدم من عدالة الدولة، وإذا كانت الوساطة تتم في السابق بشكل بسيط قائم على
إصلاح ذات البين ونابعة من العادات والتقاليد السائدة في المجتمع ، فقد
كانت مطبقة في العهد القديم في فرنسا بمفهوم المصالحة واستخدمت من جديد بعد
الثورة الفرنسية عام 1789 ، وقد ظهرت في الولايات المتحدة خلال الأعوام
1965-1970 ، وأدخلت الوساطة العائلية إلى فرنسا بتأثير من وسطاء مقاطعة
الكيبيك في كندا ، وأعد القانون العام أول قانون يتعلق في هذا الموضوع في
3/1/1973 وتبعه قانون 24/12/1976 الذي تم بموجبه تعيين وسيط الجمهورية.
فقد
أخذ التوفيق والوساطة طريقهما ليصبحا أيضاً من الوسائل البديلة لحسم
النزاعات، هكذا وضعت اتفاقية المؤسسة العربية لضمان الاستثمار مفاوضات
الوساطة والتوفيق وسيلة بديلة لحسم النزاع يرجع إليها لحسم النزاع قبل
اللجوء إلى التحكيم.
وكذلك
فعلت اتفاقية البنك الدولي بشأن تسوية منازعات الاستثمار بين الدول
ومواطني الدول الأخرى ففتحت باب التوفيق قبل التحكيم ونصت على إجراءات لذلك
باعتباره وسيلة أخرى من وسائل حسم المنازعات بطريقة ودية.
وكذلك نص نظام المصالحة والتحكيم لغرفة التجارة الدولية على نظام المصالحة الاختيارية ووضع له إجراءات.
وكذلك
وضعت اليونسترال (لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية) قواعد
للتوفيق كان لها وقع في المنازعات الدولية وكان لها أثر في نشر التوفيق
كوسيلة لحسم المنازعات وديا ، ولكن التوفيق والوساطة بقيا وسيلتين بديلتين
لحسم المنازعات ، بديلتين عن القضاء وعن التحكيم إلا أنهما بقيتا وسيلتين
نظريتين غير عمليتين وبقى القضاء هو الوسيلة الأساسية ، والتحكيم هو
الوسيلة البديلة لحسم المنازعات إلى أن كان عام 1977 في الولايات المتحدة
الأمريكية حيث كانت هناك دعوى عالقة أمام القضاء منذ ثلاث سنوات، وكان هناك
محامون ومرافعات وخبراء وجلسات ومستندات ونفقات خبرة ونفقات قضائية وأتعاب
محامين، وأرهقت الدعوى الطرفين بالوقت والمصاريف، ثم طرحت فكرة وسيلة
بديلة لحسم هذا النزاع لماذا لا تؤلف محكمة مصغرة من كل طرف يختار أحد كبار
موظفيه ممن له دراية ومعرفة بتفاصيل النزاع ثم يختار الموظفان رئيساً
محايداً.
وراقت
الفكرة للطرفين وأوقفت إجراءات المحاكمة القضائية وعقدت المحكمة المصغرة
جلسة ليست إلزامية في شيء ، واستمرت الجلسة نصف ساعة أدلى بعدها رئيس
المحكمة المحايد برأي شفهي لعضوي المحكمة ثم دخل موظفا الطرفين أي عضوي
المحكمة إلى غرفة جانبية فدخلا في مفاوضة استمرت نصف ساعة وخرجا ليعلنا
اتفاقهما وانتهت الدعوى على خير وسلام ووقف نزيف الوقت والنفقات والرسوم
والأتعاب. وكانت ولادة ما سمي في الولايات المتحدة بـ Alternative Disputes Resolution واختصرت وعرفت بالـ A.D.R أي الوسيلة البديلة لحسم النزاع.
وتطورت
هذه الوسيلة وتركزت وأخذت عدة أشكال وانتشرت في الولايات المتحدة
الأمريكية انتشارا كبيراً ، لاسيما وأن التحكيم في الولايات المتحدة لم
يعرف التقدم الذي وصل إليه في أوروبا ، لأن الأميركيين ما زالوا يجلون
المؤسسة القضائية ولم يسلموا بسهولة بعد بالتحكيم كوسيلة بديلة لحسم
المنازعات كما فعلت أوروبا التي بقى إجلالها للقضاء على حاله، بل تطوع
القضاء للأخذ بيد التحكيم للنهوض وليلعب دوره كوسيلة بديلة لحسم المنازعات
تخفف عن القضاء كثيراً من الأعباء وتبقي في كل حال تحت رقابته بعد صدور
الحكم.
والوساطة
كوسيلة لحل المنازعات في الولايات المتحدة تأتي بميزتين: أولا: اختصار
الوقت فأطول وساطة تستمر من شهر إلى ستة أشهر ، بينما الدعوى أمام القضاء
تبقى سنوات طويلة ، وثانياً: فإذا كانت الدعوى مرهقة وثقيلة في النفقات
والمصاريف فإن الوساطة كوسيلة بديلة لحسم المنازعات تبدو خفيفة الظل.
وشهدت
الوساطة ازدهارا لم يكن منتظراً ولا متوقعاً وتقبلتها أوساط النزاعات
القضائية الأمريكية وأقبلت عليها بجدية واهتمام ، حتى قدرت نسبة الحالات
التي أسفرت عن مصالحة بفضل الوساطة كوسيلة بديلة لحسم المنازعات بطريقة
ودية بـ 8.% في الولايات المتحدة و 37% في بلدان الشرق الأقصى وتقدمت في
الصين وكندا وأستراليا ، ولكن دول القوانين المدنية الأوروبية بقيت حذرة
ولم تقبل على هذه الوسيلة البديلة لحسم المنازعات بطريقة الوساطة ، فمحكمة
تحكيم غرفة التجارة الدولية في باريس تلقت سنة 1990 ثماني طلبات لحل النزاع
بالصلح في حين تلقت 365 طلب تحكيم(5).