عدد التعليقات : 0
بواسطة : info4u
بتاريخ : الأربعاء، 25 مايو 2016
مفهوم وتعريف الوساطة فى حل النزاعات
الوساطة
الوساطة هي تدخُّل طرف ثالث، شخص ثالث يتوسط بين قطبَي النزاع. إذْ يضع
الثالثُ نفسه وسط خصمين اثنين – سواء كانا شخصين أم جماعتين أم شعبين –
يتواجهان ويتضادان. فالوساطة تهدف إلى نقل القطبين من حالة "الخصومة"
ad-versité (من اللاتينية ad-versari: "التفت ضد") إلى حالة "المحادثة"
con-versation (من اللاتينية con-versari: "التفت نحو")، أي تهدف إلى
الوصول بهما إلى الالتفات كل منهما نحو الآخر للتحادث والتفاهم وإيجاد
تسوية، إنْ أمكن، تشق الطريق إلى الوفاق، أو إلى المصالحة إن لم يكن إلى
الوفاق. يريد الوسيط أن يجتهد في أن يكون "ثالثًا مسالمًا". فهو، بتوسُّطه،
يكسر العلاقة "الثنائية" – وهي علاقة بين خصمين متجابهين يعمهان ولا
يرعويان – ليقيم علاقة "ثلاثية" يستطيعان من خلالها التواصل عن طريق وسيط.
ففي العلاقة الثنائية التي يديمها الخصمان، يتصادم خطابان، حجتان، ومنطقان
دون أن يتيح أيُّ تواصُل إمكانيةَ تعارف وتفاهُم متبادلَين. فالمسألة هي في
الانتقال من منطق منافسة ثنائي إلى دينامية تعاون ثلاثي.
لا يمكن الشروع في وساطة إلا إذا قَبِلَ الخصمان كلاهما الانخراط عن رضا في
خطوة الوفاق هذه. ولا جَرَمَ أنه يمكن اقتراح الوساطة عليهما والنصح لهما
بها وحضهما عليها، لكنْ لا يمكن فرضها عليهما. واختيار الوساطة يعني، لكلا
الخصمين، أن احتدام عداوتهما لا يمكن له إلا أن يكون مجحفًا بهما وأن من
مصلحتهما السعي، عِبْرَ اتفاق ودي، إلى إيجاد مخرج إيجابي للنزاع القائم
بينهما. ويتطلب الدخول في الوساطة أن يتفق الطرفان على هدنة armistice (من
اللاتينية arma: "سلاح"، وsistere: "أوقف"): يتعهد كلُّ طرف بالتخلِّي عن
أي عمل عدواني حيال الطرف الآخر في أثناء فترة الوساطة.
والوسيط ليس "محايدًا". إذْ تعني كلمة "محايد" neutre، بحسب اشتقاقها
اللاتيني (ne: لا، وuter: أحدهما)، "لا هذا ولا ذاك" أو "لا أحدَ منهما".
كذا فإن البلد المحايد، في حالة النزاع الدولي، هو البلد الذي لا ينحاز
لأيٍّ من الخصمين ولا يقدِّم مسانَدتَه لأيٍّ منهما ولا يهب لمساعدة أحد
منهما، بل يبقى خارج النزاع. وعليه، فإن الوسيط بالدقة ليس مَن لا ينحاز
لـ"أي واحد" من الخصمين، بل مَن ينحاز لـ"كليهما جميعًا". فهو يقدِّم
مسانَدتَه للطرفين المتواجهَين ويهب لمساعدتهما معًا، فيلتزم إلى جانب
الأول، ثم إلى جانب الآخر: يلتزم مرتين، ينخرط مرتين، ينحاز مرتين. غير أن
انحيازه المزدوج ليس غير مشروط البتة، بل هو في كل مرة انحياز تمييز
وإنصاف. وبهذا المعنى، ليس الوسيط محايدًا، بل منصف: يسعى لإعطاء كل ذي
حقٍّ حقَّه. فبهذا يمكن له كسب ثقة الخصمين وتيسير الحوار بينهما.
ليست وظيفة الوسيط النطق بحكم ولا التلفظ بإدانة. فهو ليس قاضيًا يحكم لطرف
دون آخر، ولا حَكَمًا يعاقب على خطأ أحد دون آخر. إنما هو وسيط يسعى إلى
إعادة التواصل بين الطرفين للتوصل إلى توفيق بينهما. فليست للوسيط أيةُ
سلطة إكراه من شأنها أن تتيح له فرْض حلٍّ على قطبَي النزاع. إن المسلَّمة
الكبرى التي تقوم عليها الوساطة هي أن حلَّ النزاع ينبغي أن يكون، بصورة
رئيسية، من صنع قطبَي النزاع كليهما. إذْ تهدف الوساطة إلى إتاحة الفرصة
للخصمين لحيازة "نزاعهما" لكي يتمكنا من التعاون على إدارته والسيطرة عليه
وحلِّه معًا. فالوسيط "مُيسِّر": إنه ييسِّر التواصل بين الخصمين لكي
يتمكنا من التعبير عن نفسيهما والاستماع واحدهما إلى الآخر والتفاهم
والتوصل إلى اتفاق.
تهدف الوساطة أولاً إلى فصل الخصمين المتقاتلَين، ثم إلى الجمع بينهما لكي
يتحادثا. وتهدف إلى إتاحة الفرصة لهما للانتقال من حالة "جسم لجسم" إلى
حالة "وجه لوجه". فـ"الثالث" الوسيط يسعى إلى إيجاد "فضاء وسيط" من شأنه أن
يضع مسافة بين الخصمين بحيث يتمكن كلٌّ منهما من اتخاذ مسافة حيال نفسه
وحيال الآخر وحيال النزاع القائم بينهما الذي يجرحهما ويضنيهما. إن خَلْق
هذا الفضاء يتيح التواصل. فالفضاء الوسيط هو فضاء "ترويح عن النفس"
[حرفيًّا: "خلق جديد"] récréation يمكن فيه للخصمين أن يستريحا من نزاعهما
و"يخلقا من جديد" re-créer علاقاتِهما في خطوة مسالِمة وبنَّاءة.
تبدأ الوساطة عمومًا بمحادثات تمهيدية منفصلة مع كلِّ طرف من الطرفين على
حدة. وتتيح هذه المحادثات للأشخاص المتورطين في النزاع أن يُعبِّروا عن
أنفسهم في مناخ من الثقة. فالوسيط لا يدير استجوابًا مشككًا، بل يقود
تساؤلاً محترِمًا. وليس مقصده أن يتفهم مُحاوِرَه وحسب، بل أن يتيح له
بالأخص الفرصةَ أيضًا لكي يفهم نفسَه فهمًا أفضل وأن يساعده على التفكر في
نفسه وفي موقفه في النزاع. يمارس الوسيط، على نحوٍ ما، فن "التوليد"
maïeutique (من اليونانية maieutikê التي تعني فن التوليد[1])؛ أي أنه
يساعد مُحاوِريه على "استيلاد" حقيقتهم الخاصة. إن نوعية إصغاء الوسيط
تتبدى هاهنا حاسمةً في إنجاح مشروعه. فمن يشعر بنفسه مسموعًا يشعر بنفسه
مفهومًا. ويمكن له إذ ذاك أن يبوح بما في قلبه، لا أن يرويَ الوقائع (أو
روايته هو للوقائع على الأقل) فقط، لا بل أيضًا – وهو الأهم – أن يُعبِّر
عن "خبرته المعيشة". ولفكِّ عقدة النزاع، لا يكفي إثبات الحقيقة الموضوعية
للوقائع، بل تلزم بخاصة الإحاطةُ بالحقيقة الذاتية للأشخاص، بانفعالاتهم
ورغباتهم وإحباطاتهم وضغائنهم وآلامهم. يمكن عندئذٍ لكلِّ امرئ التعرف إلى
المشاعر التي تحركه. والأصل أن لإصغاء الوسيط، في حدِّ ذاته، تأثيرًا
علاجيًّا يأخذ في شفاء مُحاوره من كروبه ومخاوفه وسورات غضبه وأعماله
العنفية الكامنة. ويمكن له إذ ذاك نزع فتيل العداوة التي يغذيها في حقِّ
خصمه.
إن وظيفة هذه المحادثات التمهيدية تهيئة الطرفين لقبول الدخول في دينامية
الوساطة. وعندما يفهمان مبادئ الوساطة وقواعدَها ويقْبلانها، يمكن للوسيط،
أو للوسطاء عمومًا، أن يدعوهما إذ ذاك إلى اللقاء. ويمكن لنجاح الوساطة أن
يتجسد في اتفاق مكتوب وموقَّع من الطرفين. وإن لـ"معاهدة السلام" هذه قيمةَ
ميثاق يُلزِم الموقِّعَين عليه بمسؤوليتهما. ويمكن للوسيط أن يتأكد من
احترام كلِّ طرف للاتفاق.
إن ممارسة الوساطة في مختلف قطاعات المجتمع – المدْرسة، الأُسْرة، الحي،
المؤسسة... – يمكن لها أن تصبح إحدى الطرق الرئيسية لحلٍّ لاعنفي للنزاعات
التي تطرأ بين الأفراد والمجموعات. فالوساطةُ، إذ تتجنب اللجوء إلى الطرق
القمعية للدولة وتتيح للمواطنين أن ينخرطوا مباشرةً في إدارة النزاعات التي
تظهر لدى مواطنين آخرين، تيسِّر التنظيمَ الذاتي للعنف المجتمعي.
كما يمكن تطبيق مبادئ الوساطة وقواعدها في قلب النزاعات السياسية حصرًا،
سواء على الصعيد الوطني أم الدولي. وبهذا يمكن إيقاف النزاعات والأزمات
والحروب من خلال وساطة يمارسها بلدٌ ثالث أو هيئة من هيئات المجتمع الدولي
تقترح "مساعيها الحميدة". فالوساطة يمكن لها أن تكون أحد "الأسلحة" الأكثر
فعالية في دبلوماسية سلام.